إرث الحروب وكيف يؤثر على ديناميات الحكم بعد النزاعات الأهلية

انتصار الحركات المتمردة في الحروب الأهلية لا يؤدي ببساطة إلى تحقيق السلام والاستقرار، بل يفتح أمامنا مرحلة جديدة من الصراع السياسي غير المسلح لإعادة تشكيل الدولة، وتعتمد قدرة هذه الحركات على إنشاء مؤسسات حكم فعّالة على خبراتها التنظيمية وروابطها مع المجتمع أثناء الحرب، وبالتالي يصبح الانتقال من الحرب إلى الحكم عملية تراكمية تتأثر بإرث الصراع، أكثر من كونه بداية جديدة منفصلة عنه
تتناول الأكاديمية والباحثة شيللي ليو في كتابها الجديد «الحكم بعد الحرب: انتصارات المتمرّدين وبناء الدولة في مرحلة ما بعد الحرب»، الذي صدر عن جامعة أكسفورد، قضية مهمة تتعلق بالتحولات السياسية بعد الحروب الأهلية، وهي: ماذا يحدث عندما تنتهي الحرب بانتصار حركات التمرد ووصولها إلى السلطة؟
يؤكد الكتاب أن مرحلة ما بعد الحرب ليست سوى امتداد للصراع، ولكن بوسائل أقل عنفاً، حيث تواجه الحركات المنتصرة تحدياً كبيراً يتمثل في «فتح داخلي» جديد لتثبيت السيطرة على مؤسسات الدولة والمناطق المختلفة، ويتطلب هذا تحقيق توازن دقيق بين توجيه الموارد نحو التنمية الاقتصادية والخدمات العامة، وتعزيز الأمن لضمان عدم عودة النزاع
تعتمد ليو في تحليلها على أدلة ميدانية من زيمبابوي وليبيريا، تشمل مقابلات ونقاشات وبيانات إدارية وإحصائية، إضافة إلى تحليل معمّق لسلوك الحركات المتمردة خلال الحرب واستراتيجياتها في الحكم بعد توقف القتال، وتوسع الدراسة نطاقها بمقارنات إضافية لحروب أهلية أخرى في بوروندي ورواندا وساحل العاج وأنغولا
يركز الكتاب على الروابط التي تتشكل بين المتمردين والسكان خلال الحرب، وكيف تساهم هذه الروابط والمؤسسات التي أسسها المتمردون في تشكيل سياسات الدولة لاحقاً على المستوى المحلي، وتشير النتائج إلى أن نجاح أي حكومة منبثقة عن حركات متمردة في بناء دولة مستقرة يعتمد بشكل كبير على قدرتها على إدارة هذه العلاقات الداخلية وتوزيع الموارد بطريقة تحقق التنمية وتضمن الأمن في الوقت ذاته
في الجزء الأول (الحكم بعد الحرب)، يتضمن الفصل «المقدمة» وفصل «بناء الدولة من خلال الروابط بين المتمردين والمدنيين»، حيث توضح المؤلفة أن نهاية الحرب لا تعني بداية سلام كامل، بل استمرار لعملية صراع داخلي تهدف إلى ترسيخ السيطرة على الدولة، مع إبراز أهمية الروابط التي نشأت أثناء الحرب كأساس للحكم المستقبلي
في الجزء الثاني (تخصيص الموارد)، يبدأ الفصل «عرض الحالات» ثم يتناول بالتفصيل فصل «حرب تحرير زيمبابوي (1972–1979)» وفصل «الحرب الأهلية في ليبيريا (1989–1996)»، حيث توضح هذه الفصول كيف أسهمت استراتيجيات المتمردين في إدارة الأراضي وتوزيع الموارد بين الأمن والتنمية في تحديد نجاحهم أو إخفاقهم في مرحلة ما بعد النزاع
وينتقل الجزء الثالث (ترسيخ السلطة) إلى تحليل مسارات مختلفة لانتصارات المتمردين في فصل «مسارات متباينة لانتصارات المتمردين»، ويعقد مقارنات خارجية عبر فصل «مقارنات خارجية» الذي يشمل حالات من بوروندي ورواندا وساحل العاج وأنغولا
أما الجزء الرابع (الدلالات والاستنتاجات) فيختتم بفصل «الدلالات والبحوث المستقبلية»، حيث تؤكد المؤلفة أن بناء الدولة بعد الحروب ليس صفحة بيضاء تكتبها حكومة جديدة، بل هو عملية طويلة تتأثر بشكل مباشر بالتجارب الميدانية للحركات المتمردة خلال الحرب، وتستعرض الملاحق الثلاثة تحديات الأمن بعد الحرب وتفاصيل إضافية عن حرب زيمبابوي والحرب الأهلية الأولى في ليبيريا، مما يمنح القارئ فهماً أعمق لعمليات بناء الدولة في أعقاب النزاعات المسلحة
يقدم الكتاب أيضاً رسالة مهمة إلى المجتمع الدولي، مفادها أن فهم عمليات بناء الدولة بعد الحروب يستلزم إدراك القيود السياسية المحلية التي تواجهها الحكومات الجديدة، بعيداً عن التصورات النمطية التي تفصل بصرامة بين الحرب والسلام، وبهذا المعنى، يعتبر الكتاب إضافة قيمة للنقاشات المعاصرة حول إنهاء الصراعات وبناء السلام وترسيخ مؤسسات الحكم في دول ما بعد الحرب