
في لحظة تاريخية بارزة في الاقتصاد الأفريقي، أعلن الملياردير النيجيري أليكو دانجوتي عن تنحيه عن رئاسة شركة دانجوتي للأسمنت، ليطوي بذلك صفحة مهمة من مسيرته الطويلة التي أثرت في القارة بأسرها.
رحيل دانجوتي عن الشركة التي أسسها يعد خطوة مدروسة واستراتيجية، تشبه ما يحدث في كبرى الأسر الصناعية الغربية، لكن برؤية أفريقية أصيلة، فمن هو أليكو دانجوتي، إمبراطور الأسمنت؟
ممكن يعجبك: سعر الذهب عيار 21 اليوم الإثنين: هل يستحق الاستثمار في الذهب الآن لعام 2025؟
طفولة وبيئة محفزة على الريادة
وُلد أليكو محمد دانجوتي في 10 أبريل/نيسان 1957 في مدينة كانو بشمال نيجيريا، في عائلة ذات جذور عميقة وثروة تجارية تمتد عبر أجيال، حيث كان جده الأكبر، الحاج الحسن دانطاتا، واحدًا من أغنى رجال الأعمال في غرب أفريقيا في أوائل القرن العشرين، وتاجرًا في نواة الكولا والفول السوداني، وفقًا لوكالة “إيكوفين” الأفريقية الناطقة بالفرنسية.
بعد وفاة والده وهو في الثامنة من عمره، تولى جده سانوسي دانطاتا رعايته، حيث تعلم منذ صغره أساسيات العمل التجاري، ففي مدرسته الابتدائية، كان يشتري الحلويات ويعيد تعبئتها ليبيعها لأقرانه، مما عكس فهمه المبكر للتجارة، بحسب صحيفة “نيجير برس” في نسختها الفرنسية.
التعليم والمسيرة المبكرة
أكمل دانجوتي دراسته الابتدائية والثانوية في كانو، ثم توجه إلى مصر لدراسة إدارة الأعمال في جامعة الأزهر بالقاهرة، وعاد إلى نيجيريا عام 1977 بعد حصوله على شهادة في الإدارة التجارية، فور عودته، افتتح أول مشروع تجاري بدعم مادي من عمه بقيمة تقريبية 3 آلاف دولار، بدأ بتجارة الحبوب والسكريات، وصولًا إلى الأسمنت، وسدّد قرضه في غضون أشهر، مما أبرز كفاءته وثقته منذ بداية مشواره.
ممكن يعجبك: الاتفاق التجاري بين أمريكا وأوروبا.. نحو تحقيق التوازن الاقتصادي المستدام
تأسيس وتوسع إمبراطورية Dangote Group
في عام 1977، أطلق دانجوتي شركته التجارية الأولى، ثم أسس عام 1981 مجموعة دانجوتي التي تطورت من مجرد تجارة إلى إمبراطورية صناعية، حيث ركز على تنمية الإنتاج المحلي في مجالات السكر والملح والدقيق، وصولًا إلى الأسمنت، وكان مشروعه الرائد إنشاء مصنع Obajana في أوغون عام 2003، الذي أصبح أكبر مصنع أسمنت في أفريقيا بسعة تجاوزت 10 مليون طن سنويًا، وتوسع لاحقًا ليشمل دولاً مثل إثيوبيا وتنزانيا والسودان.
القفزة النوعية: مصفاة النفط والبتروكيماويات
أكثر المشاريع طموحًا في مسيرته بدأ قبل عقد تقريبًا، حين أطلق مجمع دانجوتي لتكرير النفط والبتروكيماويات في ليكي، والذي يعد اليوم أكبر مصفاة أحادية الخط في العالم، بطاقة معالجة تصل إلى 650 ألف برميل يوميًا، بتكلفة تتجاوز 19–20 مليار دولار، حيث افتتحت رسميًا في مايو/أيار 2023، ومن المتوقع أن تغطي احتياجات نيجيريا من الوقود، وتحوّلها إلى مصدر للطاقة المكررة، مُحدثة تغييرات كبيرة في ميزان المدفوعات الوطني، وفقًا لمجلة “أفريك.ماج” الفرنسية.
الثروة والتصنيف العالمي
تضاعفت ثروته في غضون عامٍ واحد بعد بدء عمل المصفاة، لتبلغ نحو 23.8–28 مليار دولار بحلول عام 2025، بحسب مؤشر بلومبرج وCEOWorld، ليعود إلى قائمة أغنى 100 شخص عالميًا ويكون الوحيد من أفريقيا في هذه الفئة.
تقاعد طوعي وتسليم الشعلة للجيل الجديد
في سن الثامنة والستين، وبعد عقود من القيادة والتحولات، أعلن دانجوتي رسميًا مغادرته منصب رئيس مجلس إدارة شركة دانجوتي للأسمنت، حيث أصبحت هذه الشركة، التي كانت مجرد طموح في يوم من الأيام، مرادفًا للهيمنة الصناعية، تنشط اليوم في معظم أسواق غرب ووسط أفريقيا، وتُعد ركيزة صلبة في ثروته البالغة الآن 28.5 مليار دولار، حسب تصنيف بلومبرغ.
على الرغم من تنحيه، لم يترك دانجوتي الساحة دون إعداد الخلفية اللازمة لمرحلة ما بعده، فقد سلم الشعلة إلى إيمانويل إيكازوبوه، المصرفي المعروف والرئيس السابق لمجموعة “إيكوبنك ترانسناشونال”، والذي يمثل بنظر كثيرين تجسيدًا للحوكمة الحديثة، والتوجه نحو معايير الإدارة العالمية، وفقًا لموقع SikaFinance المرجع الاقتصادي في غرب أفريقيا.
إلى جانب ذلك، تبرز ابنة دانجوتي، ماريا، كاسم واعد في مستقبل المجموعة، حيث تشغل الآن مقعدًا بمجلس الإدارة بعد سنوات من الخبرة في تكرير السكر ودراسة إدارة الأعمال في بريطانيا.
على الرغم من صعود قطاع النفط بقيادة مصفاة دانجوتي العملاقة، لا يزال الأسمنت هو العمود الفقري للمجموعة، وهذا التوازن بين القطاعات هو ما مكن دانجوتي من التحرك بثقة نحو تنويع إمبراطوريته، جامعًا بين الثقل الصناعي التقليدي والطموح التكنولوجي والطاقة البديلة، وفق رؤية أعلنها مرارًا: “التصنيع في أفريقيا لم يعد خيارًا مؤجلًا، بل ضرورة قومية، وعلى الأفارقة أن يقودوه بأنفسهم”
وفقًا لوكالة “إيكوفين” الأفريقية الفرنسية، فإن انسحاب دانجوتي لا يفهم كمغادرة نهائية، بل كمرحلة انتقالية محسوبة، تمهد لنقلة نوعية في إدارة المجموعة، انتقال هادئ بين الأجيال، مدعوم بإرث صلب وخبرة مؤسسية، مما يدل على أن المشروع أكبر من شخص، وأن الرأسمالية الأفريقية التي أسسها دانجوتي تدخل الآن طورها الثاني، بقيادة الجيل الجديد.
وجود ماريا دانجوتي على الطاولة ليس مجرد تمثيل عائلي، بل هو تمهيد لتوسيع آفاق الأعمال إلى قطاعات واعدة مثل التكنولوجيا، الأعمال الزراعية، والتمويل الأخضر، بينما يواصل الوالد دور “العقل الاستراتيجي” من خلف الكواليس، تتكفل ماريا وزملاؤها بقيادة الدفة نحو أفق قاري جديد.
في نهاية المطاف، لا يعد هذا التغيير مجرد حدث داخلي لمجموعة أعمال، بل يعكس لحظة تحول في النموذج الاقتصادي الأفريقي، نموذج يتجاوز تصدير المواد الخام ليُعيد تموضع أفريقيا في خارطة التصنيع العالمي، معتمدًا على الرؤية، التخطيط، والبعد القاري.
التعليقات