فى الساعة العاشرة والنصف صباحًا، وقبل انطلاق القطار، كان رصيف رقم ٨ بمحطة مصر بالقاهرة يعكس مشهدًا لا يمكن نسيانه، وجوه متعبة تحمل أثقال المسير، عيون تترقب المجهول، وحقائب ليست فقط مليئة بالملابس، بل تحمل أيضًا كل ما تبقى من حياة سابقة نُزعت قسرًا بفعل الحرب.
طفلة سودانية أثناء رحلة عودتها إلى بلادها.
عشرات السودانيين، رجالًا ونساءً وأطفالًا، اصطفوا على رصيف القطار المتجه إلى أسوان، فى واحدة من رحلات العودة الطوعية التي تنظمها مصر، لا لشيء سوى منحهم ما يشبه الحلم: «طريقًا آمنًا نحو الوطن، بعد شهور أو سنوات من اللجوء والتشرد»، ولم يكن المشهد مجرد زحام مسافرين، بل لوحة إنسانية غنية بالمشاعر المتنوعة، لم يكن هناك بكاء بصوتٍ عالٍ، لكن العيون كانت تعبر عن أكثر مما يمكن أن تقوله الكلمات، البعض احتضن المصريين الذين رافقوهم حتى اللحظة الأخيرة، وآخرون اكتفوا بصمت يحمل الكثير من المعاني، وفى الخلفية، كان صوت المذيع الداخلى يعلن عن استعداد القطار الخاص لانطلاق الرحلة الطوعية الثانية نحو الجنوب، بينما كان بعض الركاب يصعدون على استحياء، وكأنهم يودّعون جزءًا من أرواحهم على هذا الرصيف
عودة السودانيين إلى بلادهم.
حمل البعض حقائب تحتوي على أمتعتهم الضرورية، بينما كان الآخرون يحملون صمتًا ثقيلًا لا يمكن للكلمات تفسيره، وجوه أنهكتها شهور من النزوح والترحال، وأيادٍ تشد على بعضها وكأنها تعبر عن «لم ننجُ إلا معًا»، ومن بين الجالسين بصبر على المقاعد الحديدية، بدت نفيسة الصديق إبراهيم، ٦٢ عامًا، كأم لكل الوجوه حولها، تلف رأسها بغطاء شديد السواد، وتحمل بين يديها كيسًا بلاستيكيًا بسيطًا كأنه آخر ما تبقى من بيتها القديم، تقول بابتسامة هادئة: «أنا ماشّة بلدى لكن قلبى حايفضل هنا فى مصر»
تلتفت «نفيسة» للحظة نحو أطفال يركضون بفرح على الرصيف وتضيف: «لما الحرب اندلعت، كنا بنجرى من الموت، وجينا هنا زى ما يجرى الغريق للشط، المصريين فتحوا لنا قلوبهم قبل بيوتهم»
كانت «نفيسة» واحدة من آلاف السودانيين الذين عبروا الحدود بطريقة غير رسمية خلال أشهر الحرب، لكنها تؤكد أن ما وجدته فى القاهرة لم يكن مجرد مأوى، بل وطنًا مؤقتًا له طعم الرحمة.
عودة السودانيين إلى بلادهم.
وفى المقابل، بخطى بطيئة لكن واثقة، كان آدم على حسين محمد يجر حقيبته ذات العجلات الكبيرة نحو العربة الخامسة، وفى ابتسامته امتنان لا يخفى، تابع: «دخلنا مصر بالتهريب، بس من أول دقيقة حسينا إننا ماشيين فى شارع بيتنا، ما حد سألنا جايين ليه، كلهم قالوا لنا الحمد لله على السلامة»
«آدم» يتذكر كيف عاش مع أسرته فى إحدى ضواحى القاهرة، وكيف كانت جيرته مع عائلة مصرية سببًا لتجاوز أيام لم يكن فيها شيء مضمونًا سوى الخوف: «أنا مش ندمان على الرحلة، مصر علّمتنا إن فى وقت الشدة، الجيرة والإنسانية بتسبق الجنسية»
عودة السودانيين إلى بلادهم.
وبدأ الركاب السودانيون وضع حقائبهم وأمتعتهم داخل عربات القطار تمهيدًا للصعود وانطلاق القطار، ليلحق بهم مشرف القطار متفقدًا التذاكر الخاصة بهم، وداخل العربة رقم ٣، جلست «آمنة على عمر» بجوار ابنتها التي كانت ترتدي «كاب» يحمل شعار «شكرًا مصر»، يدها تمسك بيد ابنتها بقوة كأنها تخشى أن تفلت منها من جديد، كما أفلت منها بيتها فى السودان.
«كنّا بننام على خوف ونصحى على قلق، لما وصلنا مصر، أخيرًا عرفنا يعنى إيه نوم آمن».. «آمنة» لا تنسى كيف قابلها المصريون: «المصريين عاملونا كأننا أصحاب فى بيوتهم، مش لاجئين»، فالرحلة إلى أسوان، بالنسبة لها، ليست مجرد عودة، بل فصل جديد: «مصر سترتنا، وده دين كبير، أنا راجعة، بس بدعيلهم من قلبي»
عودة السودانيين إلى بلادهم.
بدأ القطار فى التحرك ورافقت «المصرى اليوم» السودانيين خلال رحلة عودتهم إلى أرض الوطن، وعلى غير المعتاد، كان فى القطار من ترتدى عباءة زاهية اللون، وابتسامة مليئة بالحياة، هند محمد خضر، التى جاءت إلى مصر فى شهر عسلها، لم تتوقع أن تنتهى الرحلة بهذا الشكل.
«أنا ما جيتش هاربة من الحرب، كنت جاية أعيش حلم، وأقضى شهر العسل فى مصر بلد الأمن والأمان»، ورغم قِصر إقامتها فى الجيزة، إلا أن لهجتها تمتلئ بالمحبة: «المصريين احتضنونا كأننا بنات حارتهم، يوم ما وصلنا، جيرانّا طلعوا لنا أكل وحلويات زى ما نكون أهلهم بالضبط»
تضيف «هند» ضاحكة وهى تلوّح لصديقة تعرّفت عليها فى السكن: «أنا مش ماشية، أنا مؤجلة الرجوع.. وهرجع تانى بإذن الله، بس مش لاجئة المرة الجاية، حارجع سياحة»، واختتمت هند حديثها تزغرد فرحة بمبادرة الرجوع لأرض الوطن مجانًا، أما مها بخيت عمر، فكانت أكثر تأملًا، جلست تحمل حقيبة ظهر صغيرة، وهى تردد: «كنت فى إسكندرية، الناس هناك حنينة جدًا، ساعدونا نأجر بيت ونعيش»
«مها» ترى فى المبادرة فرصة جديدة وأملًا للحياة: «كنا محتاجين بس وسيلة نرجع بيها، وأسعار الرجوع غالية جدًا، ممكن الفرد يصل إلى ٥ آلاف جنيه، وفكرة توفير قطار مخصوص مجانًا دى خطوة شجاعة، والقطر ده ماشى بين قلوب الناس مش بين محطات بس»
وعلى العربة رقم ٦، وقف على صالح الطاهر أبو بكر، أحد المشرفين السودانيين، يراجع الأسماء ويتأكد من المقاعد، ويعمل على حل جميع المعوقات التي قد تواجه الركاب السودانيين خلال رحلة العودة الطوعية إلى بلادهم: «أنا مسؤول عن خمسين راكب، أرافقهم من هنا لحد ما يدخلوا السودان، ما برجعش القاهرة، لازم أوصل كل واحد لحد بلده»، قالها بعزم وإصرار
وأضاف: «لكل عربة مشرف بيرافق الركاب لغاية ما صولهم بلادهم، ومسؤوليتنا لا تقتصر على القطار فقط، كل يوم إثنين بنرجع ناس جداد، بنعمل ده لأننا نقدر تعبهم، وعايزينهم يرجعوا بلدهم مع توفير كل سبل الراحة لهم»
وما لبث «أبو بكر» أن أنهى حديثه لـ«المصرى اليوم» حتى توقف القطار بمحطة أسيوط لمدة لا تتجاوز ٤ دقائق، إذ يصعد سائق آخر فى منتصف المسافة ويذهب السائق الذي رافق الركاب فى النصف الأول من الرحلة.
ولأن الرحلة طويلة – أكثر من ١٢ ساعة – كان لا بد من استعداد خاص لراحة الركاب، يقول مجدى عيد أحمد سليمان، مدير التشغيل بشركة أبيلا لخدمات القطارات: «بدأنا التحضيرات قبل الرحلة بأسبوعين، جهزنا البوفيه، وفرشنا المقاعد، وحطينا وجبات بسعر رمزى: بانيه، كباب حلة، شيش طاووق، ميكس جريل، سندوتشات، مشروبات»، أما محمد عبد الغفار، ملاحظ القطار، فقال: «بدأنا من ٧ الصبح نجهز، جهزنا الميّه والسندوتشات، وبكميات تكفى جميع الركاب حتى نهاية الرحلة»
ولم تقتصر التجهيزات والترتيبات فقط على «البوفيه»، بل قامت الجهات المسؤولة بعمل صيانة كاملة لقطار العودة الطوعية للسودانيين قبل انطلاق الرحلة بيوم، فيما تابعت «المصرى اليوم» الاستعدادات الفنية والتجهيزية لقطار العودة الطوعية الثانى للمواطنين السودانيين من مصر إلى السودان، والمقرر لحظة بلحظة.
ورصدت «المصرى اليوم» انتهاء الهيئة القومية لسكك حديد مصر من أعمال تجهيز قطار مكيف روسى مكون من ١٠ عربات درجة ثالثة مكيفة، كل عربة تضم ٨٨ مقعدًا، بالإضافة إلى عربة بوفيه درجة ثالثة مكونة من ٦٠ مقعدًا، استعدادًا لانطلاق الرحلة من القاهرة إلى أسوان، تمهيدًا لنقل الركاب عبر ميناء السد العالى النهرى إلى السودان.
وشملت أعمال التجهيز صيانة شاملة لمنظومة التكييف، إذ تم تغيير جميع الفلاتر ومراجعة دوائر التكييف داخل العربات لضمان عملها بكفاءة طوال الرحلة، أما عن التأمين الصناعى فتم فحص معدات السلامة ومراجعة الطفايات وتبديل التالف منها داخل القطار، وقامت فرق الصيانة بمراجعة حالة المقاعد واستبدلت غير الصالح منها، إضافة إلى صيانة شاملة لدورات المياه وتحديث قواعد السباكة، كما تولت شركة الخدمات المتكاملة تنفيذ أعمال النظافة والتأمين للعربات من الداخل والخارج ليصبح القطار فى حالة تشغيلية ممتازة.
أسامة الريح أنور، من زوّار مصر الدائمين، ليس لاجئًا؛ بل كما وصف نفسه «عاشق للمحروسة»، تابع: «أنا باجى مصر من ٢٠١٣، عندى أصحاب مصريين من أيام شغلنا فى السودان، لما الحرب بدأت، كنت هنا، وسافرت أطمّن على أهلى ورجعت، دلوقتى راجع مع القافلة، بس هرجع تانى قريب»
يختم «أسامة» حديثه بابتسامة خفيفة: «شربت من ميّة مصر.. ما بقدر أغيب عنها كتير، بس نرجع نشوف الأهل، ونرجع زيارة لمصر بعد ٣ شهور»، أما عمر عبد القاسم، أحد المسافرين فى الرحلة، فكان صوته هادئًا لكنه حاسم: «الشكر للرئيس عبد الفتاح السيسى، وللحكومة، وللناس اللى ساعدونا، فى ناس بتحاول تفسد العلاقة بين الشعبين، بس ما حد يقدر، إحنا دم واحد، والنيل ما بيفرق»
حين تحرك القطار من رصيف ٨، كان الصوت عاليًا لا من المحرك، بل من زغاريد النساء، وبكاء الصغار، وهتافات الشكر، توقف القطار مرة واحدة فقط، فى أسيوط، لتبديل السائق، أما القلوب، فلم تتوقف عن النبض بالامتنان طوال الرحلة، وهكذا تحرك قطار العودة الطوعية، لكنه ترك أثرًا فى القاهرة، على الرصيف، وفى أرواح من ودّعوا ومن عادوا، وفى سجل إنسانى طويل عنوانه: «مصر والسودان وطن واحد وإن طال الفُراق»
عبرت الإعلامية إنجي علي عن حزنها الشديد لفقدان الفنان الكبير لطفي لبيب، الذي وافته المنية صباح أمس عن عمر يناهز…
شاركت بسمة بوسيل، صورًا جديدة لها من رحلتها الساحرة في سويسرا عبر حسابها الشخصي على موقع التواصل الاجتماعي انستجرام، حيث…
موسكو أ ف بأعلن المدير العام لوكالة الفضاء الروسية «روسكوزموس» يوم الخميس، أنه تم التوصل إلى اتفاق مع مدير «ناسا»…
نعت الفنانة هبة عبد الغني الفنان الراحل لطفي لبيب الذي غادرنا صباح أمس عن عمر يناهز 77 عامًا.ونشرت هبة صورة…
أفادت صحيفة “” الإيطالية بأن اللاعب الدولي الجزائري إسماعيل بن ناصر أصبح موضوع اهتمام نادي جوفنتوس، حيث أشارت الصحيفة إلى…
أعلنت قناة النادي الأهلي عن خطة جديدة يعتزم الإسباني خوسيه ريبيرو، المدير الفني للفريق الأول، تنفيذها مع الفريق الأحمر في…